صفحات من مقدمة ابن خلدون
الفصل الخامس في ان الدعوة الدينية تزيد الدولة
في اصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها والسبب في ذلك كما قدمناه أن
الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية وتفرد الوجهة إلى الحق
فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شئ لان الوجهة واحدة والمطلوب متساو عندهم
وهم مستميتون عليه وأهل الدولة التي هم طالبوها وإن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة
بالباطل وتخاذلهم لتقية الموت حاصل فلا يقاومونهم وإن كا نوا أكثر منهم بل يغلبون عليهم
ويعاجلهم الفناء بما فيهم من الترف والذل كما قدمناه وهذا كما وقع للعرب صدر الاسلام
في الفتوحات فكانت جيوش المسلمين بالقادسية واليرموك بضعة وثلاثين ألفا في كل معسكر
وجموع فارس مائة وعشرين ألفا بالقادسية وجموع هرقل على ماقاله الواقدي أربعمائة ألف
فلم يقف للعرب أحد من الجانبين وهزموهم وغلبوهم على ما بأيديهم واعتبر ذلك أيضا في
دولة لمتونة ودولة الموحدين كان فقد بالمغرب من القبائل كثير ممن يقاومهم في العدد
والعصبية أو يشف عليهم إلا أن الاجتماع الديني ضاعف قوة عصبيتهم بالاستبصار والاستماتة
كما قلناه فلم يقف لهم شئ واعتبر ذلك إذا حالت صبغة الدين وفسدت كيف ينتقض الامر ويصير
الغلب على نسبة العصبية وحدها دون زيادة الدين فتغلب الدولة من كان تحت
يدها من العصائب المكافئة لها أو الزائدة القوة
عليها الذين غلبتهم بمضاعفة الدين لقوتها ولو كانوا أكثر عصبية منها وأشد بداوة واعتبر
هذا في الموحدين مع زناتة لما كانت زناتة أبدى من المصامدة وأشد توحشا وكان للمصامدة
الدعوة الدينية باتباع المهدي فلبسوا صبغتها وتضاعفت قوة عصبيتهم بها فغلبوا على زناتة
أولا واستتبعوهم وإن كانوا من حيث العصبية والبداوة أشد منهم فلما خلوا من تلك الصبغة
الدينية انتقضت عليهم زناتة من كل جانب وغلبوهم على الامر وانتزعوه منهم والله غالب
على أمره
(1/158)
الفصل السادس في ان الدعوة الدينية من غير عصبية
لا تتم وهذا لما قدمناه من أن كل أمر تحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية وفي الحديث
الصحيح كما مر ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه وإذا كان هذا في الانبياء وهم
أولى الناس بخرق العوائد فما ظنك بغيرهم أن لا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبية
وقد وقع هذا لابن قسي شيخ الصوفية وصاحب كتاب خلع النعلين في التصوف ثار بالاندلس داعيا
إلى الحق وسمي أصحابه بالمرابطين قبيل دعوة المهدي فاستتب له الامر قليلا لشغل لمتونة
بما دهمهم من أمر الموحدين ولم تكن هناك عصائب ولا قبائل يدفعونه عن شأنه فلم يلبث
حين استولى الموحدون على المغرب أن أذعن لهم ودخل في دعوتهم وتابعهم من معقله بحصن
أركش وأمكنهم من ثغره وكان أول داعية لهم بالاندلس وكانت ثورته تسمى ثورة المرابطين
ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء فان كثيرا من
المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الامراء داعين
إلى تغيير المنكر والنهي عنه والامر بالمعروف رجاء في الثواب
عليه من الله فيكثر أتباعهم والمتلثلثون بهم من
الغوغاء والدهماء ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك وأكثرهم يهلكون في هذا السبيل مأزورين
غير ماجورين لان الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه
قال صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فان لم
يستطع فبقلبه وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة
القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما قدمناه وهكذا كان حال الانبياء عليهم
الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب وهم المؤيدون من الله بالكون
كله لو شاء لكنه إنما أجرى الامور على مستقر العادة والله حكيم عليم فإذا ذهب أحد من
الناس هذا المذهب وكان فيه محقا قصر به الانفراد عن العصبية فطاح في هوة الهلاك وأما
إن كان من المتلبسين بذلك في
(1/159)
طلب الرئاسة فاجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك
لانه أمر الله لا يتم إلا برضاه وإعانته والاخلاص له والنصيحة للمسلمين ولا يشك في
ذلك مسلم ولا يرتاب فيه ذو بصيرة وأول ابتداء هذه النزعة في الملة ببغداد حين وقعت
فتنة طاهر وقتل الامين وأبطأ المأمون بخراسان عن مقدم العراق ثم عهد لعلي بن موسى الرضى
من آل الحسين فكشف بنو العباس عن وجه النكير عليه وتداعوا للقيام وخلع طاعة المأمون
والاستبدال منه وبويع إبراهيم بن المهدي فوقع الهرج ببغداد وانطلقت أيدي الزعرة بها
من الشطار والحربية على أهل العافية والصون وقطعوا السبيل وامتلات أيديهم من نهاب الناس
وباعوها علانية في الاسواق واستعدى أهلها الحكام فلم يعدوهم فتوافر أهل الدين وا لصلاح
على منع الفساق وكف عاديتهم وقام ببغداد رجل يعرف بخالد الدريوس ودعا الناس إلى الامر
بالمعروف والنهي عن المنكر فاجابه خلق وقاتل أهل الزعارة فغلبهم وأطلق يده فيهم
بالضرب والتنكيل ثم قام من بعده رجل آخر من سواد
أهل بغداد يعرف بسهل ابن سلامة الانصاري ويكنى أبا حاتم وعلق مصحفا في عنقه ودعا الناس
إلى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم
فاتبعه الناس كافة من بين شريف ووضيع من بني هاشم فمن دونهم ونزل قصر طاهر واتخذ الديوان
وطاف ببغداد ومنع كل من أخاف المارة ومنع الخفارة لاولئك الشطار وقال له خالد الدريوس
أنا لا أعيب على السلطان فقال له سهل لكني أقاتل كل من خالف الكتاب والسنة كائنا من
كان وذلك سنة إحدى ومائتين وجهزله إبراهيم بن المهدي العساكر فغلبه وأسره وانحل أمره
سريعا وذهب ونجا بنفسه ثم اقتدى بهذا العمل بعد كثير من الموسوسين ياخذون أنفسهم بإقامة
الحق ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبية ولا يشعرون بمغبة أمرهم ومآل
أحوالهم والذي يحتاج إليه في أمر هؤلاء إما المداواة إن كانوا من أهل الجنون وإما التنكيل
بالقتل أو الضرب إن أحدثوا هرجا وإما إذاعة السخرية منهم وعدهم من جملة الصفاعين وقد
ينتسب بعضهم إلى الفاطمي المنتظر إما بأنه هو أو بإنه داع له وليس مع ذلك على علم من
أمر الفاطمي ولا ما هو وأكثر المنتحلين لمثل هذا
(1/160)
تجدهم موسوسين أو مجانين أو ملبسين يطلبون بمثل
هذه الدعوة رئاسة امتلات بها جوانحهم وعجزوا عن التوصل إليها بشئ من أسبابها العادية
فيحسبون أن هذا من الاسباب البالغة بهم إلى ما يؤملونه من ذلك ولا يحسبون ما ينالهم
فيه من الهلكة فيسرع إليهم القتل بما يحدثونه من الفتنة وتسوء عاقبة مكرهم وقد كان
لاول هذه المائة خرج بالسوس رجل من المتصوفة يدعى التوبذري عمد إلى مسجد ماسة بساحل
البحر هناك وزعم أنه الفاطمي المنتظر تلبيسا على العامة هنالك بماملا قلوبهم من الحدثان
بانتظاره هنا لك وأن من ذلك المسجد يكون أصل دعوته
فتهافتت عليه طوائف من عامة البربر تهافت الفراش
ثم خشي رؤساوهم اتساع نطاق الفتنة فدس إليه كبير المصامدة يومئذ عمر السكسيوي من قتله
في فراشه وكذلك خرج في غماره أيضا لاول هذه المائة رجل يعرف بالعباس وادعى مثل هذه
الدعوة واتبع نعيقه الارذلون من سفهاء تلك القبائل وأغمارهم وزحف إلى بادس من أمصارهم
ودخلها عنوة.
اترك تعليقك